لونيس بن علي
لماذا نُحبّ سماع الحكايات و قراءة القصص والروايات؟ سؤال بات كلاسيكيا من كثرة ترديده، ومع ذلك لم يفقد وهجه، فلطالما تساءلنا مع أنفسنا هذا السؤال، أو كنّا هدفا له بعد أن لاحظَنا أحد الفضوليين ونحن غارقين في قراءة رواية، فيتقدّم إلينا بدافع الفضول والاستغراب متسائلا: (( ما الذي تجده في هذه الحكايات؟)).
منذ مدة، صادفتُ منشوراً في صفحة من صفحات الفايسبوك استفزني كثيراً، حتّى أنّي بسببه قرّرتُ أن أكتب في الموضوع، ولقد تضمن المنشور ما يشبه موقفا استفزازيا من قرّاء الروايات، إذ كتب صاحب المنشور أنّه شخص محظوظ لأنّه لم يقع في سحر هذه الروايات، لأنّ قراءتها بلا فائدة. وأنا جدّ متأكّد أنّ قطاعاً واسعا من النّاس يملكون نفس التصوّر، ويعتبرون قراءة الروايات مضيعة للوقت، وما بالك كتابتها. قد تجد تبريرا ما لهذا الموقف إذا صدر من أشخاص عاديين، لا يقرأون إلاّ أخبار الرياضة في الجرائد أو لا يفعلون ذلك أصلا، لكن أن يصدر هذا الموقف من أصحاب الشهادات الجامعية، وقد ينتمون من حيث التخصص إلى الإنسانيات، فهذا ما يشعرني شخصيا بنوع من الاستغراب الذي قد يكون ممزوجا بحالة من اليأس.
سؤال كهذا، كان حافزا لي للبحث في خصوصية هذا السؤال، وفي أبعاده، وكنتُ سعيداً بأن وجدتُ كتاباً انطلق من نفس الإشكال: لماذا نقرأ الحكايات والقصص؟ والكتاب بعنوان موحي (( الحيوان الحكّاء )) وبعنوان فرعي (( كيف تجعل منّا الحكايات بشراً؟)) لمؤلِّفه ( جوناثان غوتشل ) وترجمة: ( بثينة الإبراهيم) الصادر عن ( الدار العربية للعلوم ناشرون))و ( منشورات تكوين) في عام 2018.
افتتح الكاتب كتابه بجملة موحية جدا ((خلق الربُّ الإنسانَ، لأنّه يحبُّ الحكايا)).
غريزة الحكي:
في تقديمه للكتاب، انطلق غوتشل بطرح الفرضية التالية: هل يُمكن للقردة تأليف مسرحية هاملت؟ وفعلا، وُضعت مجموعة من القردة داخل غرفة تتوفر على آلة كاتبة، إلاّ أنّها أحدثت أضرارا بالآلة بكسر أجزاء منها، قبل أن تنتبه بالصدفة إلى حروفها. والحقيقة أنّ التجربة انتهت بتأليف هذه القردة نصا، لكن أكيد لم يؤلفوا مسرحية هاملت ولا أي مسرحية أخرى، فقط مجموعة من الكلمات التي لا معنى لها.
لهذا، فإنّ تأليف الحكايات والقصص ليست مسألة بسيطة، بل تحتاج إلى ملكات أعلى لا تتوفر إلا عند الإنسان؛ وقد نشأت علاقة البشر بالقصص منذ بداية المجتمعات الأولى قبل آلاف السنين، ومازالت تلك العادة تستبد به رغم التطورات التي حصلت في حياته. ومازال الإنسان إلى اليوم تثيره الأساطير ( بوصفها حكايات ) والقصص والروايات والأفلام.
ما الحياة إلا قصّة:
وإذا كان الأمر يُفسّر على هذا النحو بالنسبة لبداية الحضارة الإنسانية، فإنّ طفولة الحضارة تجد رافدها في طفولة الإنسان نفسه، فالإنسان مجبول منذ طفولته الأولى على حبّ الحكايات تلقيا واختلاقاً، إنّها جزء من طبيعته، وليست ملكة يكتسبها عبر التنشئة والتربية والتعليم، وإن كانت التنشئة ضرورية لتنمية وتطوير تلك الملكة.
ثمّ أنّه لا يمكن الفصل بين تعلّق الطفل بالحكايات وبين ولعه باللعب؛ فبين الحكاية واللعب تواشجات كثيرة، منها أنّ الحكاية قائمة على ضرب من اللعب الذهني من خلال اختلاق الأحداث الخيالية والشخصيات الخيالية والغريبة والأماكن الأكثر غرابة ثم العمل على توزيع تلك الأحداث والشخصيات والأمكنة داخل نسيج القصة كنوع من اللعب.
إنّ حضور اللعب يعني انبثاق الحاجة إلى المتعة؛ فنحن نلعب أولا لكي نستمتع بتلك اللحظات. وقد يسميها البعض بالترفيه الهروبي، انطلاقا من فكرة أنّ الدخول في قصة ما يحقق هروبا من الواقع إلى عالم القصة، ويعطّل ، ولو مؤقتا، علاقتنا بالزمن الواقعي الذي ننتمي إليه. من هنا يؤكد صاحب الكتاب بأنّ “أفضل أمر في الحياة بالنسبة إلى الأطفال هو اللعب ” ( ص43)
تسكننا الحكايات حتى في أحلامنا. أليست الأحلام ذات بنية حكائية؟ إننا ننسج حكايات حتى ونحن نغط في نوم عميق، وتلك الاحلام تمثل حكايات غامضة ومركبة على نحو معقد. وبالنسبة لدلالاتها، هناك من يذهب إلى القول بأنّ احلامنا هي رسائل مشفرة نفسر من خلالها ذواتنا، ويذهب طرف آخر إلى اعتبارها نبوءات نقرأ عبرها مستقبلا ما سيأتي لا محالة. وطرف ثالث يحمل رؤية متطرفة مفادها أنّ الأحلام لا تعني لنا أي شيء، إنها خيالات بلا معنى، مثلها مثل نبضات القلب التي هي مجرد حركات آلية. وبغض النظر عن إشكالية تفسير الأحلام، فما يهم هو بنية الحكاية التي تتأسس عليها تلك الأحلام. يقول غوتشيل: “إنّ الأحلام، في الحقيقة، هي حكايا ليلية ” ( ص88 ) ويضيف:” إنّ حكايا الليل غامضة فمن منا لم يندهش من الإبداع المجنون لأحلامه هو؟” ( ص89 )
حيث ولّيت وجهك، إذا، وجدت الحكايات. فحتى الدين هو نظام من الحكايات والقصص؛ بل أنّ أسلوبه القصصي هو أسلوب جوهري فيه، سواء اتفقنا بأنّ تلك القصص قد وقعت فعلا، وبذلك فهي سرد تاريخي لوقائع وقعت حقيقة أبطالها انبياء ورسل وما تنطوي عليه تلك القصص من أفعال خارقة ومعجزات فوق بشرية، أو كانت مجرد قصص متخيلة تحمل دلالات رمزية لأجل تقديم دروس وعضية للبشر. يقول جوناثان ” عبر تاريخ جنسنا، سيطر القصص المقدس على الوجود البشري أكثر من أي شيء آخر. فالدين هو التعبير المطلق لسلطان القصة على عقولنا”. (ص139 )
الحكاية ولغز المتعة:
يقول غوتشل بأنّ مفهوم المتعة في القصص قد ينطوي على تناقض ظاهري، فأكثر الروايات مقروئية في العالم، والتي تلقى إعجابا جماهيريا عالميا، تبني عوالمها على موضوعات غير ممتعة، مثل الموت والقتل والمجازر المريعة. في واقع الأمر يحتاج هذا إلى البحث على مستويين؛ المستوى الفني الذي يكشف عن قدرة أساليب الكتابة على توليد المتعة لدى القارئ حتى لو تعلق الأمر بموضوعات مريعة. والمستوى النفسي الذي من شأنه أن يلقي الضوء على الدوافع التي تجعل القراء يميلون إلى هذا الضرب من القصص التي تفيض بأحداث الجرائم. واكيد أنّ قرّاء الأدب الروائي يتذكرون عنوانا أو عنوانينا من تلك الروايات التي سلبت منهم النوم بسبب التشويق الذي أحاط بجريمة قتل ما.
ومن جهة أخرى فإنّ أكثر موضوعات الرواية هي تلك التي تتضمن مشكلة ما، أليس هذا ما دفع بجورج لوكاش إلى وصف الشخصية الروائية بالشخصية الإشكالية؟ إنها شخصية تواجه مشكلة أو مشكلات كبيرة تحاول مواجهتها أو الهروب منها، قد تنتصر عليها وقد ننهزم أمام قوتها. هذا ما يصنع الإمتاع في واقع الأمر، أن تنبني الرواية على مشكلة لا تواجه بطلها فحسب بل يجد القارئ نفسه معنيا بها، بل قد يشعر أنها صارت مشكلته الذاتية.
بقي في الأخير، أن نقول بأنّ حياتنا هي مجرد قصة، بل أننا نقضي جلّ حياتنا في سرد تلك القصص عن أنفسنا وعن الآخرين.