رواية ” الطريق إلى إيدا” لريكاردو بيليجيا: الجريمة كمطية لفهم الأدب

لونيس بن علي

 

إنّ السؤال الكبير والضمني الذي تطرحه رواية ( الطريق إلى إيدا) لريكاردو بيليجيا هو: ما الذي يُمكن للأدب أن يفعله؟، إذ نلاحظ بأنّ سؤالا كهذا، يُخرج الأدب من سؤال المعنى والقيمة إلى سؤال الفعل ومدى تأثير الأدب على الواقع وعلى مسارات التاريخ المعاصر.

ومن جهة أخرى تبرز بإلحاح علاقة الأدب بالمؤسسات العلمية والثقافية في المجتمعات الرأسمالية، ودوره في صراع القوى المتناحرة فيها. صحيح أنه يمكن قراءة رواية (الطريق إلى إيدا) في عدة مستويات، لكننا فضّلنا أن نركز على علاقة الجريمة بفن الرواية؛ فهي مدخل أساسي لتفسير إحدى أهم الأسئلة النقدية التي يطرحها النقاد: ماذا يُمكن أن تفعله الرواية؟ يتم العثور على جثة الأستاذة إيدا براون داخل سيارتها في طريق عمومي، و قد شكّل موتها بهذه الطريقة صدمة حقيقية لزملائها في الجامعة، وللأستاذ الأرجنتيني على وجه التحديد.

طُرحت الكثير من الفرضيات، منها فرضية الاغتيال، بالنظر إلى السياق العام الذي شهد سلسلة من الجرائم التي اُرتكبت بنفس الطريقة، والتي طالت شخصيات علمية مرموقة.

إنّ السؤال الكبير المحرّك للحدث السردي في الرواية هو: من قتل إيدا براون؟ ولماذا قٌتلت؟ كقارئ لهذه الرواية، لقد أنقذ هذا السؤال هذه الرواية من الوقوع في الرتابة، خاصة وأنك في صفحاتها الأولى تشعر أنّ لا شيء مهم يحدث فيها، بل غلب عليها الاستطراد في الحديث عن الأدب وكأنك بصدد قراءة كتاب في تاريخ الأدب أو في النقد الأدبي

. سيكتشف بطل الرواية، وهو أستاذ الأدب، من خلال تحرياته أنّ القاتل ليس شخصا عاديا، والدليل على ذلك، هي الرسائل التي كان يوقعها عقب كل جريمة، والمانفستو الذي أرسله لوسائل الإعلام، وهي تنم عن رؤية عميقة عبّر خلالها عن موقفه من النظام الرأسمالي الغربي، ورفضه له.

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فكل جرائمه كانت على صلة وثيقة بالأدب، وتحديدا بفن الرواية. كانت الجريمة بالنسبة لهذا المجرم المجهول الذي يدعى توم مونك طريقة للحصول على القراء، وتنبيه الرأي العام إلى خطورة الآلة الرأسمالية.

 وقد لخصت نينا، وهي إحدى صديقات البطل المسألة بقولها: ((أفعل الشر الخالص لكي أطوّر أفكاري وأعبّر عن آراء تضع المجتمع بأكمله على المحك)) الرواية ص152

. فهل يتوافق الشر الخالص مع الأدب؟ وفق هذه الفلسفة، استطاع المجرم الذي هو أستاذ رياضيات سابق وصاحب جوائز تقديرية مهمة، أن ينجح في التلاعب بشبكات المراقبة والقمع ويرتكب جرائم قتل بقنابل منزلية الصنع، من دون ان يكتشف أحد هويته طيلة عشرين سنة.

أما الطريف في كل هذا، فهو أنّ الكثير من أفكاره استقاها من الروايات، وتحديدا من رواية (العميل السري) لجوزيف كونراد. عندما اكتشفت الإف بي آي المانفستو المجهول الذي أرسله مرتكب الجرائم إلى الإعلام، استعانت هذه الأخيرة بأساتذة الأدب لأجل تفكيك الشفرات الأسلوبية لهذا الخطاب، وملخص الفكرة أنّ الأسلوب يعكس سيمات فردية للكاتب، وبإمكان ناقد الأدب التعرف على هوية المؤلّف.

إننا هنا أمام درس في الأسلوب، لنتذكر المقولة الشهيرة لبوفون الذي قال أنّ الأسلوب هو الرجل.

 إنّ الفكرة الطريفة هنا هي إبراز خطورة الكتابة في هذه الحرب السرية، التي انتقلت إلى فضاء الاستعارات والمجازات، التي لم تكن أقل خطورة من تلك القنابل المفخخة.

لنعد إلى علاقة الجريمة برواية كونراد، لقد اكتشفت (إيدا) أن المجرم هو زميلها السابق (توم مونك)، وهو عالم رياضيات، الذي كان يرتكب جرائمه بالاستعانة بأحداث رواية العميل السري، بما في ذلك استعارة أسماء شخصيات الرواية بهدف تمويه رجال الأمن.

كانت عقيدة توم مونك هي أنّ الواقع ليس هو ما يسمح بفهم الرواية، بل أنّ الرواية بالمقابل ((هي التي تشرح واقعا ظل خلال سنوات عصيا على الفهم)) (الرواية 219) وأنّ فصل الأدب عن الحياة هو حالة مرضية، بل العكس هو الصحيح أن تتحول الرواية إلى أسلوب حياة. ((

كأنّ مونك قد وجد في الأدب طريقا وشخصية لكي يخطط لعملياته السرية.

قارئ روايات يبحث عن المغزى في الأدب ويحققه في حياته الشخصية)) (ص219) لقد أخذ توم الروايات محمل الجد، فحوّل الكلمات إلى أفعال، وما وجده في روايات كونراد هو بالذات ((قرار تغيير الحياة)) (ص220) التجأ توم إلى الأدب حتى يعثر على مغزى لحياته، من خلال تخيل نفسه شخصية روائية في حكاية كبيرة.

وبغض النظر عن هذا الموقف، فالتاريخ نفسه مجرد رواية، لكل دور فيه يؤديه.

اعتقد توم بأنّه بلجوئه إلى الرواية لن يتمكن أحد من اكتشاف حقيقته، إلى أن وقعت رواية العميل السري بين يدي إيدا براون، لتكتشف ضلوعه في جرائم القتل التي طالت شخصيات علمية مرموقة، فكان عليه أن يقتلها حتى لا تنكشف حقيقته.

إنها في واقع الأمر عملية تصفية وقعت بين قارئين: قارئ استعمل الرواية لارتكاب جرائمه، وقارئ استعمل الرواية لمعرفة حقيقة المُجرم. ما توصلت إليه إيدا أنّ طموح صديقها السابق مونك كان استكمال الحبكات الناقصة في الروايات الخيالية، وتجسيدها في جرائم قتل في الواقع.

مقالات ذات صلة

قسنطينة تحتضن الطبعة الـ11 لمهرجان الإنشاد الدولي

sarih_auteur

رسميا.. إطلاق تطبيق “اكتشف الجزائر”

sarih_auteur

اليونسكو تضم 11 موقعا تراثيا جزائريا جديدا

sarih_auteur