السياحة في عنابة .. بين التنوع الطبيعي و الزخم التاريخي و التراثي

زكرياء أوديني

عنابة واحدة من مدن الساحل الشرقي للوطن بتاريخها الكبير العريق، من ميناء شغل الناس وملأ الدنيا، ومرفأ كان لتصدير المعادن، لتنوع بيولوجي مذهل إلى معالم تروي عبقرية الإنسان وإلهام المكان، من القديس أغسطين لمقامات تسع وتسعين من الأولياء والعباد الزهاد، فسحة روح ومقام سكينة، عنابة يجب أن تزار وأن توصف.

واحدة من أجمل مدن المتوسط، بل واحدة من أجمل مدن الدنيا سمها كما تشاء هيبون، بونة، أو عنابة في النهاية لن تكون غير الجوهرة التي ترصع تاج الساحل الوطني الأخاذ .

المدينة القديمة .. رائحة الماضي الجميل ومسجد أبي مروان الشامخ عبر الزمان

لا تزال المدينة القديمة بعنابة تروي عبر دروب أزقتها حجرا حجرا ذكريات المكان، ومن مروا ممن أحب المدينة وعشقها وجعلها مسكن الفؤاد، عبر كل زقاق وفي كل درب تروى الذكريات كحكايات من الزمن الجميل، مطلة على البحر اللازوردي وميناء المدينة لم تدر “لابلاص دارم” ظهرها لهويتها، التي يرويها مسجد أبي مروان الشريف منذ القرن الرابع الهجري، بأمر من  معز الصنهاجي و ببصمات راقية للمعماري أبى ليث البوني الأندلسي.

مسجد أبى مروان لم ينعزل بعباده و ناسكيه بل كان بأفق المتوسط،  فكان منارة المدينة الأولى تهدي لحيث تهفو أفئدة العنابيين، مسجد المدينة وجامعها الأول, وإن أسس على أعمدة رومانية غاصت في تاريخ المدينة القديمة، إلا إنها تحولت لهوية و رمز حامل “سنجاق البلاد” ليسمو به لعوالم التسامح ويخلد نفسه كبصمة إسلامية راقية .

وسمي بمسجد أبي مروان نسبة إلى عبد الملك بن مروان بن علي الأزدري المولود بإشبيلية، والذي أنجز أول جامعة دينية بالمسجد قدمت فيها العلوم العسكرية والدينية، وكان في وقت مضى يضم في جانبه السفلي ما يسمى بحديقة “الرباط” و التي كانت بمثابة ناد لضباط البحرية، وبعد الاحتلال الفرنسي سنة 1830 حول إلى مستشفى وقد أضيف إلى بنائه الأصلي طابق علوي، كما تم فصل حديقة “الرباط ” عن الجامع.

يذكر أن المسجد تعرض لأضرار بليغة سنة 1964 بعد انفجار باخرة السلاح ”نجمة الإسكندرية” في الميناء ما جعله يوصد أبوابه ، لكنه عاد كطائر الفينيق ينهض من رماده يقارع الزمن و الأحداث ليستقبل العنابيين تعلو مأذنته راية الوطن الشامخ .

كنيسة القديس أغسطين و مدينة هيبون الأثرية … وشم المدينة الذي لا يزول

كنيسة هيبون أو ” لالة بونة ” كما يحلوا لسكان عنابة تسميتها، من أبرز معالم المدينة، تحتل موقعا إستراتيجيا في غاية الأهمية، حيث أنها تطل على جميع مداخل الحاضرة، ما يجعلها بارزة للعيان ومحل فضول كبير من الزائرين سواء من داخل الجزائر أو من خارجها.

وتجمع ” لالة بونة ” بين الأسلوب العربي المغاربي، والبيزنطي الروماني حيث تمت الإستعانة بالرخام والخشب الأحمر المطعم في تشييدها، ما جعل منها تحفة فنية و معمارية. للإشارة، فإن البازيليك يعد مقرا لمذهب الكنيسة الكاثوليكية و تتكون الكنيسة من قاعة كبيرة للصلاة، ومحراب أيمن ، فضلاً عن محراب كبير يضمّ ضريح القديس أغسطين  ، ومحراب أيسر يعتبر مصلى لـ “ياسوع” ، إلى جانب بيت للقس وأجنحة أخرى، وكذا مدرسة وملجأ لكبار السّن يأوي العشرات ممن بلغوا من العمر عتيا، ويسهر على خدمتهم و رعايتهم أخوات مسيحيات و أخريات مسلمات.

وتعد كنيسة القديس أوغسطين أو كما يطلق عليها “كنيسة السلام” تحفة معمارية تزين عروس الشرق، وهي صرح كبير يروي حياة القديس، وهو فيلسوف من أصل إفريقي لاتيني، عاش في الفترة بين “354 – 430 م”، وتقع “البازيليكا” تحت إمرة أبرشية قسنطينة، وبدأ العمل على بنائها عام 1881  إلى غاية مارس 1900، و بها تمثال أغسطين ، حيث توفي و المدينة محاصرة من قبل المخربين.

و تقع المدينة  الأثرية هيبون بجانب كنيسة القديس أغسطين حيث تسمح لزوارها، برؤية أنقاض الهياكل القديمة ، و التي كانت واحدة من أكبر الحواضر في أفريقيا، و يضم المتحف في الموقع مجموعة رائعة من الفسيفساء، و أنقاض فرس النهر، التي تعد ذات قيمة أثرية عالمية، و تجدر الإشارة أن هيبون كان إسم مدينة عنابة في العهد الروماني، كما أن الموقع عبارة عن أنقاض بها حفريات، ويقع عند مدخل المدينة، و هو محمي ومفتوح للجمهور و المهتمين بتاريخ واحد من أهم المواقع الأثرية بالعالم .

سيدي إبراهيم “رايس البطاح” اللي قصدك لا بد يرتاح

محمد بن التومي بن إبراهيم المدعو” بوشوشة” بمعنى الفارس من أسرة فقيرة معدمة. عاش صغره حياة الرعي و الفروسية و الأنفة , حفظ القرآن الكريم و انتقل نحو “فقيق” لجمع الأموال و المؤن والأسلحة فتعرض للإعتقال وأدخل السجن جورا سنة 1862، حاول أن يلعب دورا في مقاومة “أولاد سيدي الشيخ” لكنه لم يوفق في مسعاه. قام برحلة نحو تونس وطرابلس الغرب وبعد عودته إلى الجزائر جند بوشوشة جماعة من عين صالح فبايعته قبائل الشعانبة على الجهاد ضد الفرنسيين و أستطاع تحقيق إنتصارات يذكرها تاريخ المقاومة و الجهاد ضد المحتل .

و يعتبر سيدي ابراهيم بن تومي أحد الأولياء الصالحين الذي ينسب له أهل عنابة فضائل كبيرة وشمائل مختلفة، ويحظى مسجد و ضريح سيدي براهيم بن تومي بتوافد حشود غفيرة حيث تقام الولائم والأفراح وحلقات الذكر و التسبيح، كما اعتاد المريدون على زيارة زاويته،يجتمعون فيها، يتبادلون الفكر والرأي و المشورة و يتناقشون أمور دينهم و دنياهم، وقد خلد إسم سيدي “إبراهيم بن تومي” وفضائله وكراماته مجموعة من المداحين المترنمين و لا يزال العنابيون يتوارثونها ذكرا و حفظا، فخرا و توقيرا، وتشتهر عنابة دون غيرها بكثرة أولياء الله الصالحين الذين بلغ عددهم الـ 99 وليا من أولياء الله الصالحين كسيدي حرب ،سيدي سالم ، بابا عبد ، سيدي محرز والمرابطة خضراء و السيدة بية .

 

مدينة تعشق الفن و تروم الجمال

و تعرف عنابة بكونها مدينة ثقافة و فنون ومركز صناعات تقليدية، حيث أنها قطب هام لفن المألوف الأندلسي و التراث العيساوى ومن أبنائها النابغين المرحوم حمدي بناني ، محمد ولد الكرد و حسان العنابي و الذين يعدون مراجع و قامات فنية كبرى ، وتعد  بونة حاضرة لأغنية الشعبي و “شيخ المدينة ” الفقيد إبراهيم باي كان و سيبقى أحد عمالقة الشعبي و شيخا من شيوخ هذا الفن الذي تبناه العنابيون و جعلوه مشنف أسماعهم .و لعنابة بصمتها الراقية بقندورة الفتلة و المجبود بأيادي حرائر عنابة و لها مع النحاس و الفضة و صناعة المجسمات البحرية قصص يرويها العنابيون في جلساتهم التي لا تحلو دون قطايف و بقلاوة و مقرود بنكهة ماء الزهر من بساتين سرايدي .

قفزة نوعية في مجال الفندقة والخدمات الفندقية  

سجلت عنابة في السنوات الأخيرة قفزة نوعية من ناحية المنشآت السياحية التي تدعمت بها الولاية على غرار فندق الشيراطون وفندق سيبوس الدولي التابع لمجمع  السياحة والحمامات المعدنية والعشرات من الفنادق الخاصة التي باتت تتنافس فيما بينها لإرضاء زوار الولاية من كل أرجاء الوطن فبمجموع  45 مؤسسة فندقية تتسع لـ 4629 سريرا من بينها 7 مؤسسات فندقية مصنفة  تتجه ولاية عنابة على المدى القصير إلى تدعيم قدراتها من الأسرة بأكثر من 2500  سرير جديد مع استلام مشاريع في طور الإنجاز وأخرى تخضع  لعمليات ترميم و إعادة تأهيل وتحديث وتوسيع وفق دراسات و مخططات مدروسة تحفظ لها طابعها و ترسخ بصمتها المتميزة في الخارطة السياحية .

وتتوزع معظم المشاريع التي تسجل نسبة تقدم في الأشغال تفوق الـ 60 بالمائة  وكذا المؤسسات الفندقية التي تخضع للتجديد وإعادة التأهيل والتوسيع بمدينة عنابة في حين تسجل مناطق التوسع السياحي توطين ما مجموعه 18 مشروعا سياحيا يجمع ما بين الفنادق و الإقامات السياحية و الشالهيات و المركبات و القرى السياحية  المبرمجة بمنطقتي التوسع السياحي براس الحمراء وسيرايدي بأعالي عنابة .

.

 

الشواطئ … راحة المصطاف

تعتبر السياحة في عنابة من أجمل المدن الجزائرية و من أكثرها استقطابا للسواح، حيث تجذب شواطؤها الذهبية المتنوعة بين صخرية عذراء و رملية ذهبية، سواءا التي  بوسط المدينة التي يحفها الكورنيش العنابي الخلاب أو تلك المتواجدة بمختلف البلديات بالولاية ، المصطافين من كل ربوع الوطن و من خارجه ، كما تتوفر المدينة على معالم سياحية بديعة و مع حلول كل موسم إصطياف تسطر السلطات المحلية بالولاية برنامجا خاصا بمراقبة مدى احترام قانون مجانية الشواطئ الذي أقرته وزارة الداخلية والجماعات المحلية، للسهر على راحة المواطنين و منحهم حرية الاختيار والاستمتاع بنسمات شواطئ الولاية 23 التي باتت قبلة كل الجزائريين.

النقل.. خدمة للمصطاف و المستثمر

أعلنت مديرية النقل بولاية عنابة عن إنشاء 20 خط نقل جديد سيتم تشغيلها قريباً،بعدد من بلديات الولاية، تربطها بالمنشآت السياحية تلبية للمطالب التي طرحها المستثمرون في القطاع، لتسهيل و تيسير الوصول لمشاريعهم السياحية على تعدد أنماطها، و التي كانت الغاية من إنشائها إستقطاب الأسر و السواح، و العمل على الدفع بالسياحة الداخلية لمستويات راقية، أكدت عليها جل المخططات الحكومية ليتحول قطاع السياحة لقاطرة إقتصادية كبرى و مورد دخل هام يخلق فرص التشغيل و التكوين، و بإمكان القطاع أن يتحول لمدر لقيمة مضافة تجعل القطاع إستراتجيا، خاصة أن الولاية لا تعوزها الإمكانات الطبيعية و لا البشرية لتحقيق ذلك .

السياحة الجبلية  تنقل سيرايدي إلى مصاف القرى  العالمي     

باتت قرية “سرايدي” الساحلية، وجهة مثالية للسياحة الجبلية ، حيث تعرف مؤخرا حركية  و ديناميكية مكثفة تهدف إلى بعث السياحة في المنطقة التي تتميز بطبيعتها الخلابة وتنوعها البيئي المدهش، أين بادر عدد من الشباب المستثمر  إلى إنشاء جمعيات ترفيهية وسياحية ، لتنشيط المنطقة بالعديد من الأنشطة الرياضية التي تتماشى مع طبيعة المنطقة التي تقبع على ارتفاعات تتجاوز الثمانمائة متر على غرار رياضة التحليق بالمضلة  ” البارابونت” حيث عرفت إقامة عديد الدورات الدولية بمشاركة المئات من هواة هذه الرياضة محليين و أجانب ، ناهيك عن تواجد أنشطة مختلفة تتلائم و طبيعة المنطقة من  ركوب للخيل و تنزه بالعربات الرباعية الدفع في وسط غابات الايدوغ الخلابة ، ما يعتبر قفزة نوعية ستدفع بالقطاع لمستويات أرقى .

السياحة كتعريف و كنه و قطاع تجاوزت تعريفاتها الكلاسيكية، كونها إقامة مؤقتة لفرد أو مجموعة بمنطقة ذات مؤهلات و مقدرات سياحية ،بل تعدت ذلك لتتحول لفعل حضاري راق يمس عديد القطاعات، و تتداخل فيه مجموعة من الرؤى و الإستراتيجيات ،بل تحولت لقوة ناعمة تخدم الدول و الأمم، و إن كانت الجزائر كدولة محورية إفريقيا و متوسطيا تبحث لها عن مكانة طبيعية في الخارطة السياحية الدولية فهي تحوز على كل المقومات لتكون قبلة السياح و مهوى أفئدة الزائرين، فهذا الوطن لم يعدم تسامحا و لا جمالا و لا طيبة فالجزائر تفتح ذراعيها لكل عاشق للجمال بأرض السلام .

مقالات ذات صلة

أساتذة يطالبون بمستحقات تصحيح أوراق مسابقات الوظيف العمومي بعنابة

sarih_auteur

من بينها عنابة.. النقل البري سيتدعم بـ 108 حافلة جديدة في 3 ولايات

sarih_auteur

تحضيرا لموسم الاصطياف 2025.. والي عنابة يسدي تعليمات هامة

sarih_auteur