احتقار للثقافة والمبدعين الحقيقيين
هيفاء بيطار
سأروي تلك الحادثة المُوثقة والتي كانت في وقتها فضيحة أدبية مُخزية، ومن حسن حظي أنني كنت شاهدة على تلك الفضيحة ومُساهمة أيضاً في كشفها .
كانت جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع في الأردن قد أعلنت عن جائزة دسمة للرواية شرط أن تكون الرواية غير مطبوعة، وطبعاً غير منشورة والشرط الأهم ألا تكون قد حصلت على جائزة .
لست متأكدة تماماً أي عام أظن كان عام 1999، كانت الجائزة تعادل حوالي مليونين ليرة سورية ( وكان سعر الدولار 45 ليرة سورية )، وعرفت بالجائزة عن طريق صديقة غالية من الأردن لأن إتحاد الكتاب العرب ( عادة ) كان يتعمد ألا يُخبر فروعه في كل المحافظات بتلك الجوائز.
يومها تقدمت للجائزة بروايتي ( أبواب مُواربة ) وإتصلت بسكرتير الجائزة لأتأكد من وصول روايتي ( كنا نرسلها بالبريد لم يكن هناك بعد أنترنيت ).
وتقدم الكثير من المبدعين لجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع الروائي، ولا أخفي حلمي أن تفوز روايتي بالجائزة .
صدرت النتيجة أخيراً بحصول كاتب فلسطيني سوري يعمل في إتحاد الكتاب العرب في دمشق محرراً لجريدة ثقافية وأحب أن أعطي لمحة عنه، كان الكاتب والموظف المدلل جداً لرئيس إتحاد الكتاب العرب علي عقلة عرسان الذي بقي رئيساً لإتحاد الكتاب ربع قرن، وكان الكاتب المدلل له حصة الأسد في كل الدعوات لمؤتمرات أدبية ( وغير أدبية ) حتى أن لقبه صار ( حامل الحقيبة ) سافر مراراً إلى إيران ومراراً إلى تونس وغيرها، وطبعاً كل سفر يحصل على مكافأة مالية ضخمة.
الكاتب إياه فاز بجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع، وصدر تقرير اللجنة التي أعطته الجائزة أن أسلوبه يتميز بالواقعية السحرية كما غابرييل ماركيز !!!كانت عبارة الواقعية السحرية آخر موضة وقتها تُستعمل كيفما إتفق كأنها علامة الثقافة والحداثة، ولأن لا شيء يخفى فقد تفجرت الفضيحة بجلاجل ( كما يُقال ) إذ تبين أن الرواية التي تقدم بها الكاتب إياه قد سبق وقدمها هي ذاتها لجائزة سعاد الصباح وحاز وقتها على جائزة سعاد الصباح للرواية ( التي كانت تشترط ألا يكون عمر الكاتب أكثر من 32 عاماً ) أي أن روايته الفائزة بجائزة سعاد الصباح المنشورة والحاصلة على جائزة تقدم بها لجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع في الأردن ربما غير عنوانها أو دس بعض الفقرات في النص الأصلي، وكنت واحدة من الكتاب الذين قرؤوا روايته التي حصلت على جائزة سعاد الصباح وصُعقنا !!! ترى ألا يتم التدقيق في الأعمال أو الروايات المُقدمة للجوائز ؟
ألا يفترض بالمسؤولين عن جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع أن يدققوا في مصداقية الكاتب، وأي تقرير مهزلة أن الرواية تتمتع بالواقعية السحرية، وحضرته لا يكتب إلا عن فلسطين التي يريد أن يمتطي الشهرة كونه فلسطينياً، وطبعاً اتصل العديد من الكتاب المشاركين في الجائزة بلجنة التحكيم وأبلغوهم أن الرواية الفائزة للكاتب الفلاني قد سبق أن نالت جائزة سعاد الصباح منذ سنوات وأنها مطبوعة، وارتبكت اللجنة والتزمت الصمت !!! إلا أن أحد أعضائها إضطر أن يبرر تلك الفضيحة بأنهم يعتمدون على مصداقية الكاتب ولا يخطر ببالهم أن أنبل الناس ( أي الكتاب ) يغشون، وطارت الجائزة من الكاتب، طار مبلغ المليوني ليرة سورية ( حين كان الدولار أقل من 45 ليرة سورية ) وطبعاً هو جن جنونه وصار يقول بأن ( كلون يعني كلون ) أي الكتاب المشاركين في الجائزة يشعرون بالغيرة منه وأن روايته مختلفة تماماً عن الرواية التي ربحت في مسابقة جائزة سعاد الصباح .
هذه الفضيحة الموثقة تبين مدى الفساد واحتقار الثقافة والمبدعين الحقيقين، أيه لجان تحكيم هذه !!! علاقات شخصية وولاءات وإستزلام، ومصالح ، تبين أن الكاتب إياه صديق حميم لإثنين من لجنة التحكيم وأرادا أن يساعداه مادياً بتلك الجائزة الدسمة متغاضين وأيضاً واثقين أن الخيانة لن تُكشف.. لكنها كُشفت .
للأسف هذه الحادثة المُوثقة والتي حين كشفت أحدثت ضجة وفضيحة تتكرر في جوائز كثيرة اليوم، لست الوحيدة التي أكاد أصاب بالسكته القلبية حين أسمع أن كاتباً متوسط الموهبة ومقاول وموهبته العظيمة ليست في الكتابة إنما في بناء شبكة من العلاقات الخاصة وإظهار الولاء التام لمن يعملون في مطبخ الجوائز، وهو مطبخ بالمعنى الحرفي للكلمة .
كم من المرات تناقشنا مطولاً أنا وأصدقاء ( من المثقفين الشرفاء المبدعين ) عن مهزلة هذه الجوائز ونستغرب كيف تُعطى جائزة لرواية أقل من عادية ، بينما تُحجب عن روايات عظيمة قصداً، كما لو أن الغاية تمجيد الرداءة وتكريس متوسطي الموهبة، الغاية ألا يكون هناك لمعة إبداعية حقيقية في هذه الجوائز، أذكر مثلاً كم تفاجأت مع العديد من الأصدقاء كيف أن رواية رائعة ( شارع العطايف ) لعبد الله بن بخيت لم تحظى على نصيبها في جوائز البوكر، وكيف أن كاتباً عالي الإبداع والضمير كفواز حداد لا تتم الحفاوة بأعماله كما تستحق ورواياته عظيمة وتوثيقية وتستحق أعلى الجوائز.
يحق لنا أن نتساءل كيف يمكن لمجلة مشهورة ثقافية مثل مجلة دبي الثقافية التي تطبع كتاباً مع كل عدد شهري تصدر فيه المجلة أن تطبع ثلاث روايات لكاتب !!! وتظلم بقية الكتاب المبدعين من دورهم وحقهم في صدور كتاب لهم .
وأحب أن أذكر ما حصل معي إذ كنت أكتب مقالات عديدة في دبي الثقافية حين كان يرأسها المبدع الصديق ناصر عراق ( صاحب رواية رائعة من فرط الغرام ) كان يحب كتاباتي خاصة أنني كنت أختار كتباً هامة وأكتب عنها مثل كتاب ( عقل غير هادىء ) وكتاب نقدي لجبرا إبراهيم جبرا الخ .
وطلب مني ناصر عراق أن أرسل له عملاً غير مطبوع ليطبعونه كتاباً في مجلة دبي الثقافية وفعلاً كنت قد إنتهيت من كتابة مجموعة قصصية هي ( sms) وأرسلتها لدبي الثقافية ونالت الأعجاب الكبير خاصة أنهم لم يكونوا قد طبعوا قصصاً قصيرة بعد وتحدد موعد صدور مجموعتي القصصية في شهر أيار عام 2009، ولا نعرف السبب الذي استبدل فيه ناصر عراق برئيس تحرير سوري آخر، واتصلت أبارك للرئيس الجديد وأكد لي أن مجموعتي القصصية ستصدر في حينها كما وعدوني، واقترب شهر أيار ولم يتم الاتصال بي من قبل رئيس تحرير كجلة دبي الثقافية، وصدر عدد شهر أيار ولم تكن مجموعتي القصصية مطبوعة بل رواية للكاتب الذي طبعوا له ثلاث روايات ( لو كان غابرييل ماركيز أو كاواباتا لما طبعوا لهما ثلاث روايات ) وطبعاً غضبت وأحسست بالمهانة وبدأت أتصل بالسيد رئيس التحرير السوري الجديد ولم يرد إطلاقاً على إتصالاتي ولا على رسائلي على الإيميل، إلى أن كنت ذات يوم في بيروت وإتصلت به من جهاز هاتف في الطريق فأتاني صوته فوراً وسألته لماذا لا يرد على اتصالاتي وإيميلاتي فتحجج بحجج مهزلة، وسألته لماذا لم تطبع مجموعتي القصصية مع أنك أكدت لي أنك ستطبعها فقال بأنهم ( لا أدري من هم !!) وجدوها قصص جريئة جداً لا تتناسب مع سياسة المجلة !!! فقلت له بأن رأيهم كان على العكس حين تقدمت بالقصص وبأنني لا زلت أحتفظ بالرسالة على موبايلي تؤكد فيها أنت شخصياً أن قصصي ستطبع في أوانها وستصدر في شهر أيار .. طبعت المجموعة فيما بعد في دار الساقي ( هي دار النشر العريقة التي أنشر فيها ) . ولاقت نجاحاً كبيراً .
للأسف لا توجد أيه محاسبة لهذا الفساد الثقافي الذي يجعل الناس ينفرون من القراءة، لا أحد من المسؤولين الثقافيين أصحاب مطبخ الجوائز يتذكر ويؤمن بعبارة ألبير كامو ( الكتابة شرف ).
الرحمة لروح العظيم رياض نجيب الريس الذي اكتشف الفساد في لجان التحكيم وانسحب وقتها من اللجنة التي كان عضواً فيها. الغاية هي ترويج الوسط وحجب الإبداع العالي .
كم حُوربت رواية محمد شكري الخبز الحافي واتهمت بأحقر الصفات وامتنعت دور نشر عربية عن نشرها حتى نشرتها دار نشر أجنبية!!لأن محمد شكري امتلك شجاعة قول حقيقة عيشنا في مجتمع عربي مُنافق يعشش الفساد في كل مؤسساته خاصة الثقافية . محمد شكري الذي تحدث عن القاع، قاع الفقر والانحراف واللاأخلاق .
ونحن نعيش تحت شعار ( إذا إرتكبتم المعاصي فإستتروا )، أذكر كم من أدباء في سوريا كُرموا وتم التهليل لهم وحصلوا على جوائز وهم لا يستحقون .
أخيراً أحب أن أذكر تلك الحادثة الطريفة فقد قصدتني ذات يوم إلى عيادتي العينية شابة جامعية تحمل رواية لكاتبة ذاع صيتها كثيراً وسألت الطالبة: هل تحبين كتاباتها ؟ فقالت : في الحقية لا أحب كتاباتها لكنها تحكي جملاً كثيرة عن الحب والعشق، وأنا أحب شاباً يسكن في دبي وأختار له أحياناً بعض الجمل من كتابها .
الفساد الثقافي يحتاج إلى محاسبة ولضمير ولأن الكتابة شرف .. كما قال العظيم ألبير كامو .