تداعياته الهائلة

عندما يكتب عبد العزيز بوباكير تُضاء بعض جوانب العتمة، قلم من معدن استثنائي، رهيف وحاد كمشرط جراح، يتغلغل في ثنايا عصره بلغة شفافة، ساخرة ومؤلمة في الكثير من الأحيان، وصادقة وعميقة في كل حين.

هو ذا عبد العزيز بو باكير يتداعى كسيل من مزراب العصر، كاشفا في مساره العفوي خيباتنا السياسية والمعرفية، غاسلا في مروره تلك المساحيق التي تضعها السلطة على برنامجنا، أو بعض المثقفين التافهين كأقنعة على وجوههم، غير أنه يسقي نباتات الأمل فينا نحن قراؤه الشغوفين العارفين بأنه ينهل أفكاره من سماوات ثقافته الرحبة، ولكن أيضا من تراب أصالته التي لا يرقى إليها الشك.

خلال ثلاثين سنة، تاريخ معرفتي به، مثل بالنسبة لجيلنا ذلك المثقف الذي لا يكتب عن هوى، كل كلمة، كل فكرة يستعملها كسلاح لمقاومة الرداءة والفساد، مسلح كما ينبغي بترسانة معرفية صلبة، سليل لغات وثقافات متعددة، ذو نظرة موسوعية للحياة والإنسان، يبدو في الظاهر متشائم ولا مبالي، غير أنه في داخله شديد الإضاءة والوضوح، أكاديمي من طراز عالي، وأستاذ جامعي يهفو الطلبة لمحاضراته، وكاتب صحفي ينتظر القراء على الدوام كتاباته.

حين كنت ألح على نشر تداعياته المبثوثة في بطون الصحف، تردد كثيرا، كان قلقا إزاء فكرة اللا كمال الذي يشوب الكتابة الصحفية عادة، وعليه كما قال، أن يعيد النظر فيها كلياً. وبروح السخرية المتبادلة بيننا، قلت له لو لم يسبقك “بول لافارج” إلى تأليف كتابه “الحق في الكسل” لكتبته أنت نيابة عنا جميعاً.

غير أنني أعرف بحكم تجربتي أن الكتابة الصحفية هي (تاريخ فوري) لا يريد القارئ منها الكمال وإنما الصدق، وقد انعكست أحداث العصر بنقائصها وتناقضاتها، وأيضا بطموحاتها وتطلعاتها، في تداعيات عبد العزيز بوباكير، وهذا ما يجعل منها شهادة بالغة الأهمية على عصرنا.

والحق أن متعتي بإعادة قراءة تلك المقالات لا تضاهى، فقد صاحبتنا في محننا وهواجسنا وأحداث عصرنا منذ بداية الألفية إلى الآن، بعضها من السخرية إلى درجة الشعور بالمرارة تحت اللسان وأنت تقرأها، وبعضها الآخر أدب رفيع يفتح أفقاً في القفص الكبير الذي نحاول أن نغرد فيه تفاؤلاً ببعض الأمل الذي يبثه فينا.

دون شك، سيقف القارئ ذاهلاً أمام طزاجة الكثير من هذه المقالات، التي تبدو وكأنها كتبت للتو، تجاوزت زمنها الكتابي لتؤسس زمنها الخاص، متواطئة مع قارئ شغوف بأناقة العبارة، وذكاء الفكرة، وسباكة الأسلوب، وخاصة رحابة الفضاء الذي تستقي منه معلوماتها وثقافتها، وهو ما يجعل منها ـــ كما قلنا ـــ شهادة متميزة على عصرنا، تستحق منا القراءة والاهتمام، ولم لا النسج على منوالها.

مقالات ذات صلة

حذاء بوش، قلنسوة داوود والعربي الودود

سارة معمري

رمضان بين صيام الخصوص وصيام اللصوص

سارة معمري

الكفاءة المعرفية والخبرة الميدانية والعلاقة الطردية

سارة معمري