في خطوة استفزازية جديدة ضد الجزائر، تقدم مجموعة من النواب الفرنسيين بمقترح قانون لإنشاء “مؤسسة وطنية لذكرى الحركى”، ووجهت اتهاماً للجزائر بما تسميه “تغذية الكراهية” ضد هؤلاء الذين خانوا وطنهم تحت راية الاستعمار الفرنسي. ويأتي هذا المقترح ليعيد إلى الواجهة قضية الحركى التي تمثل إحدى أكثر الصفحات سواداً في التاريخ الاستعماري الفرنسي بالجزائر. وبالموازاة، أطلت نائبة فرنسية بالجمعية الوطنية، وهي الغرفة السفلى للبرلمان، بسؤال غريب تضمن تجاوزاً للخطوط الحمراء ووقوعاً في المحظور، في ما يشبه طلباً موجهاً للسلطات الجزائرية بالاعتذار لـ”الحركى”، من خونة الثورة الذين وقفوا ضد أهلهم وعشيرتهم إبان حرب التحرير.
وجاء هذا السؤال الغريب من طرف النائبة ميشيل مارتينيز، عن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، في خطوة تعتبر بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء ومحاولة لإعادة كتابة التاريخ بما يخدم أجندة اليمين المتطرف الفرنسي. النص الذي تقدّمت به مارتينيز جاء مشحوناً باتهامات مباشرة للجزائر، حيث زعمت أن “الحركى” ما زالوا، بعد أكثر من ستين سنة، يتعرضون لـ”إهانات” و”حملات ترهيب” سواء على التراب الفرنسي أو عبر الإنترنت، فقط لأنهم أو آباءهم أو أجدادهم اختاروا القتال تحت الراية الفرنسية في ما كان يعرف حينها بالولايات الجزائرية الثلاث.
هذه القضايا التي حاولت فرنسا طمسها لعقود، تُستحضر اليوم في سياق سياسي وإعلامي مشحون، تحاول من خلاله أطراف فرنسية، خصوصاً تيار اليمين المتطرف، إعادة الاعتبار لهؤلاء مستغلة الملف لتصفية حسابات تاريخية ودبلوماسية مع الجزائر. فبعد أن تخلت عنهم السلطات الاستعمارية بشكل مهين عقب الاستقلال، رغم وعودها بحمايتهم بموجب اتفاقيات إيفيان، تعود اليوم بعض أذرعها السياسية لتستعملهم كورقة ضغط في حرب الذاكرة، محاولة تبرئة نفسها من خيانتها القديمة عبر تحميل الجزائر مسؤولية معاناتهم المستمرة.
ورغم ما يُثار ضد الجزائر في هذا الملف، يبقى من الثابت والشائع والموثق تاريخياً أن فرنسا الرسمية في نهاية ثورة التحرير الجزائرية كانت أول من خان الحركى، إذ سارعت إلى رفض استقبالهم بعد الاستقلال، في خرق واضح لوعودها السابقة بحمايتهم. وهي حقيقة ناضل أبناؤهم طويلاً من أجل توثيقها وانتزاع اعتراف رسمي من فرنسا بمسؤوليتها عنها. فقد وضعتهم السلطات الفرنسية في معسكرات مغلقة جنوب البلاد، في بيئة قاسية تفتقر إلى أبسط مقومات الكرامة الإنسانية، حيث عاشوا التهميش والعزلة، يُنظر إليهم كـ”خونة” من الجزائريين و”غرباء” من الفرنسيين.
ومع ذلك، وبعد 63 سنة كاملة، تتحرك الأوساط المعادية للجزائر اليوم لتحمّلها مجدداً مسؤولية معاناة هؤلاء، في محاولة مكشوفة لتبرئة فرنسا من ماضيها الاستعماري وإعادة توجيه اللوم نحو الضحية بدل الجلاد. وعلى مدى عقود، حاولت باريس طيّ هذا الملف بصمت، قبل أن تبدأ بالاعتراف المتدرج بمسؤوليتها الأخلاقية. ففي عام 2016، أقرّ الرئيس فرانسوا هولاند بتخلي فرنسا عن الحركى، ثم جاء الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2021 ليقدم اعتذاراً رسمياً لهم باسم الدولة الفرنسية، لكن هذا الاعتذار لم يغير كثيراً من حقيقة أن فرنسا هي من تنكرت لهم أولاً، لتعود بعض الأطراف الآن وتحاول تبييض صفحتها الاستعمارية وتحميل الجزائر تبعاتها.
وفي تحرك مريب، يدعو المقترح البرلماني الجديد رقم 1910، الموقّع من 98 نائباً بقيادة ميشيل مارتينيز، إلى تأسيس مؤسسة رسمية لإحياء ذكرى الحركى، ويتهم الجزائر بأنها “تغذي الكراهية ضدهم عمداً”، وأنها “لم تعتذر يوماً وتواصل سبّهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي”. وفي محاولة مكشوفة لإعادة كتابة التاريخ وتزييف الحقائق، يتضمن البيان المرفق بالمقترح اتهامات صريحة تزعم أن “السلطات الجزائرية تشجع خطاب الكراهية وتستخدم مؤثرين على الإنترنت لترويج هذا الخطاب”، وترفض الاعتذار عن “إقصاء الحركى” من الذاكرة الوطنية.
ويأتي هذا التطور في سياق متأزم يشهد توتراً متصاعداً بين الجزائر وباريس، حيث ظلت “معركة الذاكرة” ورقة سياسية داخل فرنسا تُستخدم كلما تراجعت العلاقات أو اقتربت الاستحقاقات الانتخابية

