فيلم “جميلة في زمن الحراك”.. تتويج لحياة “ديدي” المأساوية

حاز على عدة تتويجات أهمها أفضل فيلم قصير في مسابقة “الجزيرة الوثائقية”

محمد لمين موساوي

“ديدي مبروكة” أو كما يناديها أبناء الحي “جميلة”، تفترش أرصفة الأزقة وشوارع المدينة القديمة في مدينة عنابة شرق الجزائر. تعيش واقعها المأساوي وسط متاعب الحياة نهارا ورهبة الليل، “ديدي” بطلة فيلمها الوثائقي تروي فيه حلماها في سكن إجتماعي، وتحكي عن أملها في الحراك الشعبي ليغير حياتها إلى الأفضل.

جميلة تمثل واقعها..

فيلم “جميلة في زمن الحراك” يحاكي يوميات عجوز تعيش دون مأوى في أزقة وشوارع المدينة القديمة في عنابة والتي وجدت في الحراك الشعبي المنطلق 22 فيفري 2019 بالجزائر متنفسا حقيقيا لتشفي غليلها من الظلم والاضطهاد الذي تعيشه. تم تصوير الفيلم الوثائقي ومدته 7 دقائق و5 ثواني في شوارع المدينة القديمة وفي قلب الحراك الشعبي الذي عرف مسيرات روتينية سلمية بساحة الثورة التي لا تبعد سوى بضع أمتار عن مأوى عراء جميلة.

 تم تصوير مقاطع لـ “جميلة” التي كشفت في الفيلم أنها شاركت في المسيرات ضد الظلم والتهميش ومن أجل الأشخاص دون مأوى، الذين لا يملكون عشاء ليلة مثلها،  وقد نجح المخرج عبد الرحمان حراث في إنجاز هذا الفيلم الوثائقي وأوصل صوت “جميلة” إلى كل الجزائريين.

حاز الفيلم على عدة جوائز كانت أبرزها جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير في مسابقة الجزيرة الوثائقية ضمن 400 فيلم مشارك من 30 دولة. وتوج باللقب بعد مسابقة مفتوحة تمت على مرحلتين، المرحلة الأولى التي اعتمدت على تصويت الجمهور الذي يمثل 40 بالمائة والمرحلة الثانية التي تعتمد على تنقيط لجنة التحكيم التي تشمل 60 بالمائة.

“الحب والحنان والرقة .. لم أعايش كل هذه المشاعر منذ وفاة زوجي”

تتحدث جميلة بطلة فيلم “جميلة في زمن الحراك” لـ”الصريح” عن حياتها التي تحولت إلى كابوس بين ليلة وضحاها، بعد وفاة زوجها وطرد زوجة والده لها من المنزل لتجد نفسها في الشارع، مضيفة أنها عانت الويلات طيلة 15 سنة من التشرد لتخوض غمار الصراع من أجل العيش وتقف في وجه أشباح الليل المتربصين بها يوميا، قلة الأكل، واللا أمن، الأمر الذي يضطرها في الكثير من الأحيان لقضاء ليلتها بالقرب من مراكز الشرطة لكي لا تتعرض لأي مكروه.

قالت بمرارة وحزن: ”لا أملك سببا يجعلني أعيش.. لا طموحات ولا أحلام.. أصدقائي حاليا هم القطط والكلاب ولا أملك لا صاحب ولا حبيب” وتابعت’ أصبحت وحيدة لدرجة أتساءل ماذا لو مت؟ لا أحد سيفتقدني.. “.

التسعينات.. كابوس “ديدي” المخيف

لم تقتصر حياة جميلة المأساوية على حاضرها المعاش بين الأزقة بحثا عن لقمة العيش التي صعب إيجادها جراء تبعات أزمة كورونا ، فحتى كوابيس الماضي لا تفارق ’ديدي’، أين تطرقت في حديثها مع رصيف لحادثة مريرة وقعت لها، وقالت ’في حقبة التسعينات الدموية  كنت أشارك فرقة غنائية سهراتها بالغناء في المطاعم الفخمة وأعضاء تلك الفرقة صديقاتي.. تم اغتيالهم على يد الإرهاب وهو ما أجبرني في ذلك الوقت على الابتعاد عن مجال الغناء لكي تنجو بجلدي من الإرهاب الدموي” وتكمل ” كنا نمسي ونصبح على أخبار الاغتيالات، فقد تم قتل الأكاديميين الجامعيين والمثقفين والكتاب والصحفيين والأطباء والمفكرين.. لا أحد ينجو” .

“ديدي” عايشت فترة معقدة في تاريخ الجزائر والموسومة بـ “العشرية السوداء”، ففي سنة 1991 وبعد إعلان فوز الحزب السياسي الجبهة الإسلامية للإنقاذ  بأغلبية واسعة على جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية، بسط الجيش سيطرته الفعلية على الحكومة وأعلن حالة الطوارئ.

بعدها ألغت الحكومة الانتخابات بعد الجولة الأولى وتقدم الرئيس الشاذلي بن جديد باستقالته في يناير من عام 1992، بعد 17 يوما فقط من إعلان تلك النتائج الانتخابية.

هذه العوامل وما تبعها من قرارات كانت شرارة اندلاع حرب أهلية في الجزائر أو ما يعرف بالعشرية السوداء.

بعد ذلك، تم حظر حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومنع تماما من المشاركة في الحياة السياسية في آذار 1992، وبدأ الجيش بإلقاء القبض على الآلاف من أعضائها.

ولكن، سرعان ما برزت مجموعات مختلفة، وبشكل أساسي الحركة الإسلامية المسلحة ومقرها أساسا في المدن، وبدأت وقتها حملة مسلحة ضد الحكومة وأنصارها، ليس هذا فحسب فقد تم إبادة المدنيين والعائلات بالقرى والمداشر البعيدة.

جميلة تقول عن تلك الحقبة ’لم يكونوا جميعا مرتبطين بالنظام، إلا أنهم كانوا يتحدثون الفرنسية’ في إشارة منها إلى أن الطبقة المثقفة التي كانت مستهدفة وطالتها أيادي الغدر بكل بقاع الوطن.. أيادي شباب فقراء بالمناطق الحضرية ممن انضموا إلى الجهاد تحت تأثير خطابات الكراهية والتعصب.

“الحراك أعاد الأمل”

لخصت جميلة أمالها وأحلامها، في استفادتها لسكن اجتماعي يحميها من مخاطر المجتمع، وتحفظ كرامتها بين الحيطان وتغلق أبواب الاعتداء والتنمر الذي طالها في “البراكة” والأرصفة التي تفترشها بين أزقة حي “بلاص دارم” ، ففي بداية الحراك الشعبي بالجزائر في 22 فبراير، كانت جميلة من الملتزمات بالمشاركة في المسيرات الشعبية بساحة الثورة في ولاية عنابة، تردد شعارات التغيير وتحمل اللافتات وتصرخ بأعلى صوتها ’جزائر حرة ديموقراطية’، ’كنت أجهل مفهوم الشعارات التي تردد في الحراك، ولا أعلم إلى ما ترمي لكن كنت أرددها مع الجماهير بكل فرحة، أحببت أجواء المسيرات، أحسست بالمواطنة وأصبح لي أصدقاء نلتقي ونتكلم على مشاكلنا وانشغالاتنا، ونتحدث عن تحول حال البلاد إلى الأفضل الامر الذي كان سينعكس على حالتي الاجتماعية ويجمعني بين حيطان منزل دافئ’ تقول جميلة.

“اخترت جميلة لأنها تمثل المرأة الجزائرية المهمشة.. والحراك كان أملها في التغيير”

في حديثه مع “الصريح”، يخبرنا المخرج عبد الرحمن حراث أنه قرر الخوض في حالة جميلة الاجتماعية بكل ما يملك من أفكار وخيال سينيمائي والعمل على تجسيدها في فيلم وثائقي استنادا إلى نصائح ومساعدة مخرجين وذوي تجربة في السينما.

 ولمدة أسبوعين كاملين، قام عبد الرحمان  بجمع المعلومات اللازمة عن بطلته “جميلة” التي تعتبر كذلك ابنة حيه لتنطلق عملية التصوير بإمكانيات بسيطة تمثلت في كاميرا 5 دي وهاتف ذكي ووسائل متوسطة النوعية بالنظر للعمل الحائز على عدة ألقاب.

 أغلب مشاهد العمل صورت في الليل لرصد الواقع الذي تعيشه جميلة وحياتها الاجتماعية المزرية وانشغالاتها، وحديثها مع المواطنين وآمالها التي علقتها، جميعها، على الحراك الشعبي.

وبذلك، قام المخرج بعمل استند إلى حقيقة البطلة المعروفة على مستوى الشرق الجزائري، وصور من خلاله حياة الممثلة والشخصية التي عبرت عن واقعها في دقائق معدودة. ليتجسد أمل وهمي في واقع أفضل لحياة جميلة.

جميلة  التي لا تزال إلى حد كتابة هذه الأسطر تنام على “الكرطون”، بين أزقة المدينة القديمة، رغم شهرتها وتأثر الجزائريين بقصتها المأساوية  تبقى بطلة المهمشة دون مأوى.

مقالات ذات صلة

توافد جماهيري غفير على مشاهدة فيلم بن مهيدي

sarih_auteur

تأسيس مهرجانات في الولايات العشر المستحدثة

taha bensidhoum

الكاتب عبد الله تفرغوست”: “إذا أردنا أن نكتب للأطفال فيجب أن نحتك بهم “

taha bensidhoum