بقلم: ملاك زموري
رغم أن العالم اليوم يعيش عصر الانفتاح الثقافي والمعرفي، إلا أن الأدب العربي لا يزال يعاني من العزلة بسبب ضعف حركة الترجمة إلى اللغات الأجنبية.
ففي وقت تُعد فيه الترجمة أحد أهم جسور التواصل الحضاري وأدوات إنتاج المعرفة، تظل الكتب العربية غائبة إلى حد كبير عن رفوف المكتبات العالمية.
وتُشكّل أعمال الأديب نجيب محفوظ، أول عربي نال جائزة نوبل في الأدب، استثناءً نادرًا، إذ تُرجمت رواياته إلى عدة لغات وأسهمت في تعريف القارئ الغربي بالأدب العربي، غير أن هذا الحضور يظل محدودًا في ظل قلة المبادرات المؤسسية في العالم العربي، وخصوصًا في الجزائر، حيث تعاني حركة الترجمة من ركود واضح.
ويُجمع أكاديميون ومهنيون في مجال الترجمة على أن الجزائر تشهد نسبة ضئيلة من الأعمال المترجمة مقارنة بدول عربية أخرى، مرجعين ذلك إلى غياب مؤسسات متخصصة في الترجمة، ما يعيق تطوير هذا القطاع الحيوي. كما شددوا على أن نجاح الترجمة لا يقتصر على نقل الكلمات، بل يشترط الإلمام بثقافة ولغة المجتمع الأصلي للعمل، لضمان نقل المعنى والدلالة بدقة. وفي ظل هذا الواقع، تبقى الترجمة الأدبية في الجزائر بحاجة ماسّة إلى دعم مؤسساتي واستراتيجية وطنية شاملة للنهوض بها، حتى لا تظل الثقافة العربية حبيسة حدودها، محرومة من حقها في الوصول إلى القارئ العالمي.
الدكتور أحسن تليلاني: “الترجمة جسر نحو العالمية.. وغياب المترجم المؤهل أكبر التحديات”
يُعدّ الدكتور أحسن تليلاني، الأستاذ الجامعي والناقد والمترجم، أحد الأسماء البارزة في المشهد الثقافي، إذ أغنى المكتبة العربية بعدة أعمال مسرحية وأدبية متميزة. ومن بين مؤلفاته نذكر: أمراء للبيع، الضربة السابعة، الثعلبة والقبعات، زيتونة المنتهى، ولوكيوس أبوليوس، إلى جانب ترجماته المتعددة، خاصة من اللغة الفرنسية إلى العربية، والتي تركز في مجملها على المسرح والتاريخ.
وفي حديثه لـ”الصريح”، أكد الدكتور تليلاني أن الترجمة تمثل ركيزة أساسية للتطور الثقافي والعلمي، مشددًا على أنها السبيل لنقل الإبداع العربي والجزائري إلى العالم. وأوضح: “ترجمة الإنتاج الفكري إلى اللغات الحية، خصوصًا الإنجليزية، أمر في غاية الأهمية، فهي تتيح لأدبنا الانتقال من حدود المحلية إلى فضاء العالمية، وهو طموح لا يخص الكاتب وحده، بل يهم الشعوب والدول بأسرها”.
وأشار إلى أن واحدة من أبرز إشكالات الأدب العربي، والجزائري بشكل خاص، تكمن في عائق اللغة، إذ لا تحظى العربية بانتشار واسع خارج حدود العالم العربي، مما يعزز من حالة “الانعزال الأدبي”. وأضاف: “كل كاتب يتمنى أن تُترجم أعماله، لكننا نصطدم بغياب من يتقن اللغة ومن يمتلك الكفاءة لنقل النص بروحه وأبعاده. فأين هو المترجم؟”
ولم يُخفِ تليلاني رغبته العميقة في ترجمة أعماله إلى اللغة الصينية، معتبرًا أن التحدي الأكبر يكمن في غياب المترجم المؤهل لذلك. وتابع قائلًا: “نكتب، نحلم بالوصول إلى العالم، لكن من يحمل نصوصنا إلى هناك؟”، وشدد على أن دعم الترجمة لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود إرادة سياسية حقيقية، وبدعم مؤسساتي جاد يواكب تطلعات الكتاب والمبدعين. وأعرب عن أمله في أن يُترجم كتابه زيغود يوسف، معتبرًا أنه من شأنه أن يُغيّر نظرة العالم إلى الجزائر ويُبرز رموزها التاريخية ونضالاتها. وقال: “للأسف، ما زلنا نعيش في واقع متخلف لا يُدرك أهمية الترجمة. كثير من الكُتاب الكبار رحلوا دون أن تحظى أعمالهم بالترجمة، وبقوا حبيسي المحلية. نحن نحلم أن تصل أصواتنا إلى أبعد مدى، لكن الطريق لا يزال طويلًا”.
الكاتب عادل خروف: “الترجمة للأسف تقتصر على الروايات المتوّجة بالجوائز فقط”
أعرب الكاتب والقاص عادل خروف عن أسفه لواقع الترجمة الأدبية في العالم العربي، مشيرًا إلى أن الترجمة غالبًا ما تُمنح فقط للروايات التي تنال جوائز أدبية، دون النظر إلى القيمة الحقيقية للعمل أو قابليته للانتقال إلى لغات أخرى. وقال: “لا يوجد كاتب لا يتمنى أن تُترجم أعماله لتصل إلى قراء ناطقين بلغات أخرى، لكن الواقع المؤسف أن الترجمة غالبًا ما تقتصر على الروايات الحائزة على جوائز، وغالبًا ما تكون ترجمات رديئة – إن لم نقل سيئة – تسيء إلى الكاتب أكثر مما تخدمه، فلا تلقى رواجًا أو اهتمامًا من القارئ الأجنبي”.
وأضاف: “قد تكون بعض هذه الروايات الفائزة بالجوائز غير قابلة للترجمة أساسًا، إما بسبب تعقيد لغتها أو لأن مستواها الأدبي ضعيف من الأصل، على عكس رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، التي وصفها مترجمها إلى اللغة الإيطالية بأنها كُتبت لتُترجم، لما تتمتع به من لغة سلسة وبعيدة عن الغموض والتعقيد المفرط، ما ساهم في ترجمتها لاحقًا إلى العديد من اللغات العالمية”. وفيما يتعلق بمدى وفاء الترجمة للنص الأصلي، أكد خروف أن “كل ترجمة في الأدب هي بشكل من الأشكال خيانة للنص الأصلي”، وأوضح: “المترجم لا ينقل الكلمات فقط، بل يعيد صياغتها بأسلوبه الخاص وبإحساسه، ما يجعله يعيد كتابة العمل من جديد، ويبتعد – شاء أم أبى – عن النص الأصلي”.
المترجم سليم رقامي: “حقيقة اللغة ليست فيما يُقنَّن لها من قواعد ونحو، ولكن فيما يُسنّ لها من إبداع”
قال المترجم والكاتب سليم رقامي إن دور النشر ترفض التعاون مع المترجمين غير المعروفين، وأن الترجمة في الجزائر لا تزال جهدًا فرديًا بحتًا. مؤكدًا أن الترجمة الأدبية هي فن وعلم وبناء، فاللغة الأدبية، سواء كانت محكية أو مكتوبة، وسيلة للتواصل والحوار. وأشار إلى أن بعض شعوب إفريقيا جنوب الصحراء أبدعوا في استخدامها ببراعة رغم غياب قواعد نحوية صارمة، كما كان الحال في أوروبا قديمًا مع اللغة اللاتينية التي كانت الأم للغات مثل الفرنسية والإنجليزية.
وأضاف أن جوهر اللغة لا يكمن في قواعدها، بل في الإبداع الذي يصوغ القواعد، معتبرًا أن الإبداع هو الذي يدفع اللغة للتطور، وليس العكس. وأوضح أن الإبداع هو نتاج العقل البشري الذي يسن القوانين اللغوية ويبتكرها. وفيما يتعلق بضعف ترجمة الأدب الجزائري المكتوب بالعربية إلى الفرنسية أو الإنجليزية، أوضح رقامي أن السبب يعود إلى ضعف دور النشر وعدم وجود مسابقات أو جوائز تحفيزية تشجع على الترجمة والقراءة، حيث إن غياب أولمبياد للترجمة خاص بالشعراء المحليين يعيق النهضة الثقافية والعلمية والاجتماعية. واستشهد برؤية أن النهضة الأدبية في القرن التاسع عشر ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالترجمة. أما عن تحديات الترجمة، فأكد أن المترجم يجب أن يقرأ الواقع بلغته وبعمق، لأن المترجم هو الواجهة التي ينقل من خلالها النص إلى القارئ.
الأستاذ الجامعي المحاضر في الترجمة “م. و”: “المؤسسات الناشئة في الترجمة مؤشر مهم للنهوض بهذا المجال”
وحسب أحد الأساتذة المحاضرين بقسم الترجمة بجامعة باجي مختار عنابة، فإن جهود الترجمة في تطور مستمر، وذلك راجع لعدة مؤشرات. فمن المنظور الأكاديمي، تم فتح عدة أقسام جديدة للترجمة في الجامعات الجزائرية، على غرار جامعة باتنة وجامعة البليدة، وفي المستقبل القريب ستُفتح أقسام جديدة في جامعات أخرى. إلى جانب مؤشر ملاءمة وتوحيد المناهج التعليمية بين المعاهد وأقسام الترجمة، فضلاً عن زيادة عدد الطلبة الوافدين، مما ألزم التفكير في فتح تخصصات جديدة.
وأضاف أن توجه وزارة التعليم العالي من خلال القرار 12/75 نحو فتح المجال لإنشاء مؤسسات ناشئة في مجال الترجمة سيسهّل على الطلبة إنشاء مؤسسات حقيقية وليس مجرد مكاتب تقليدية، بالتنسيق مع وزارة العدل والغرفة الوطنية للمترجمين. مؤكدًا أن هذه المؤشرات تدل على العناية المتزايدة بهذا المجال المعرفي والاقتصادي والاجتماعي، والذي يحتاج طبعًا إلى تكثيف الجهود بين كل المعنيين من مؤسسات وهيئات ودور نشر وأساتذة ومترجمين ومختصين للنهوض به إلى أرقى المستويات.
وأبرز الأستاذ أن قسم الترجمة يضم شقين: شق مهني مرتبط بسوق العمل والممارسات الميدانية، وشق أكاديمي مرتبط بالمؤسسات التعليمية. وإذا أراد الباحث الغوص في ممارسات الترجمة، فعليه التوجه إلى المترجمين الرسميين الحاصلين على اعتماد رسمي أو المنخرطين في الغرفة الوطنية أو الجهوية للمترجمين الرسميين، للحصول على إحصائيات دقيقة قد يحتاجها في أبحاثه.
فالترجمة وسيط ثقافي وجسر بين ثقافتين، فإن كنا نريد أن نُسهم في ترقية وتنمية الأمم ونخرج من الجهل إلى المعرفة، ومن الخمول إلى الإنتاج، فلا بد من الترجمة، ونقل ثقافتنا إلى ثقافات أخرى.