أدونيس وبيروت: يا “مدينة البدايات”: أما من نهايةٍ لهذا الشحوب؟

أحمد دلباني

تمثل المدينة عند أدونيس لحظة حضارية بامتياز. إذ لا يُمكن اختزالها في المكان أو البُعد الجغرافي على اعتبار أنها ما ينضحُ بالحضور الإنساني والقيم المُشتركة وفضاء التعدد والتعايش.

 فالمدينة ذاكرة مُشتركة وانفتاحٌ وتواصل خلاق بالأساس. ومن هذه الزاوية نستطيعُ أن نلاحظ أنَّ لأدونيس علاقة خاصة وحميمية جداً بمدينة بيروت.

إذ تمثل هذه المدينة بداية انفتاح التجربة الأدونيسية، أواخر الخمسينات، على أسئلة الإبداع الشعري والحداثة الفكرية والموقف من التراث معا. إنها مدينة الخروج من زمن ثقافي راكد ومحافظ عاشه في القرية وفي دمشق لاحقا إلى زمن كانت ميزته الأساسية احتضان التغير وإيقاع العصر وأسئلته.

لقد عرف فيها الصداقات العالية وميلاد المشاريع المؤسِّسة التي تمخضت عن أكثر إنجازاته جذرية في حقول الإبداع والبحث والمراجعة النقدية والاستشراف الحضاري. فهي حاضنة لقاءاته الأولى مع السياب ويوسف الخال الذي باشر معه العمل على إطلاق منبر للشعر الجديد حمل اسم “مجلة شعر”.

وهي المناخ الذي هيَّأ له تثوير الشعر العربي بصورةٍ غير مسبوقة مع عمله الأبوكاليبتيكي “أغاني مهيار الدمشقي” وما تلاه من إنجازات حاولت تدشين تاريخ بروميثيوسي للإنسان العربي يقوم على الحرية والانتهاك وجرأة مدِّ اليد إلى شجرة المعرفة والسر بمعزل عن ثقافة الخطيئة والوصاية.

 كما أنها، فضلا عن ذلك كله، المدينة التي دفعت به دفعا إلى الانخراط الواثق في نقاشات واسعة حول الوضع الحضاري العربي المتعثر، وشهدت، انطلاقا من ذلك، ميلادَ مشاريعه النقدية والتفكيكية التي طالت البنية الذهنية والثقافية العربية السائدة بوصفها عائقا أمام التغير والصيرورة والإبداع كما هو معروف.

جاء في كتابه الرائق “ها أنت أيها الوقت” الذي هو في الأصل “سيرة شعرية ثقافية”: ” … بيروت / منذ لامست قدماي ترابَها، وبدأتُ أشرد في شوارعها، شعرتُ أنها مدينة أخرى: ليست مدينة “النهايات” كمثل دمشق، وإنما هي مدينة “البدايات”. وليست مدينة “اليقين” بل مدينة “البحث”، وأنها لذلك ليست بناءً اكتمل، وعليك أن تدخل إليه كما هو، وأن تعيش فيه كما هو، وإنما هي، على العكس، مشروعٌ مفتوحٌ لا يكتمل.

شعرت أنَّ بيروت كمثل الحب: بداية دائمة، وأنها كمثل الشعر: يُعاد إبداعها باستمرار”. هذا الكلام يمثل شهادة في حق مدينةٍ منحت لشاعر شاب قادم من دمشق العتيقة المحافظة فضاءً للترحل الحر في بكارة العالم والأسئلة التي تطرحها المرحلة.

لقد أسره انفتاحُها وكونها ملتقى فريداً لروافد العصر الثقافية والفكرية والسياسية.

ولكنَّ الشاعر – الذي غادر بيروت في منتصف الثمانينات ليختار الإقامة في باريس بعد أهوال الحرب الأهلية اللبنانية والحصار الإسرائيلي للمدينة سنة 1982 – يعود إلى الكتابة عنها، بعد عشريات، بنوع من الأسف على ما آلت إليه هذه الحاضرة الفينيقية العظيمة. لقد راعه أن تشيخ بيروت وأن تظل نهبا للبنية الطائفية التي ترسخت أكثر ومزقت أوصالها وجعلتها رهينة للانقسام والتناحر المُعلن والمُضمَر. راعه أيضا أن يتمَّ تشويه فضائها العمراني وانكماش البُعد الجمالي فيها لصالح التنابذ والهوس التجاري – المالي.

 لقد أصبح أميَل إلى كتابة مرثيةٍ في مدينة كان لها، في عهود سابقة، أن تحتضن مغامرات العقل وطفولة الأبجدية والاحتفاء بالتعدد قبل أن تقع في أحبولة الواحدية التي رأى فيها شاعرنا جرثومة أولى للانغلاق ونبذ المختلف وخنق جذوة الإبداع.

فقد ألقى محاضرة شهيرة أثارت جدلا كبيراً في بيروت سنة 2003 حملت عنوان “بيروت اليوم، أهي مدينة حقا، أم أنها مجرَّدُ اسم تاريخي؟” جاء فيها: “هنا سأجرؤ على التصريح بأنَّ هاجس الإبداع الحضاري بدأ يختفي في بيروت، أو يتراجع، منذ ظهور الأديان التوحيدية”. وهو ما جعله يخلص إلى أنَّ “رحم بيروت منذورة لكي تلدَ قايين باستمرار”.

لم يكن ذلك، في اعتقادي، انتقاداً لبيروت وحدها وإنما لمدننا العربية عموما على اعتبار أنها مدنٌ تفتقرُ إلى البُعد المدني وفضاء المواطنة وقيم التعدد والحريات المدنية.

 فبيروت صورة نموذجية – من هذه الزاوية – لافتقارنا إلى ثقافة المدينة ما دمنا لم نحسم، إلى اليوم، معاركنا لصالح انتصار الدنيوة والدمقرطة وثقافة المواطنة بمعزل عن الانغلاق الطائفي الذي لا يلدُ إلا قايين القاتل.

وفي اعتقادي أنَّ كل من عاشر المُنجَز الأدونيسي يستطيع، دون كبير عناء، أن يقرأ في ثناياه الدعوة إلى العمل على أن تنهض “مدينة الإنسان” العربية على أنقاض “مدينة الله” التي أسَّست للتناحر الطائفي والمذهبي والواحدية الدينية والسياسية.

 ألم يكتب شاعرنا نفسه، يوما ما، قائلا: “كل مذهبيةٍ حُبلى بالجلادين؟”.

مقالات ذات صلة

حذاء بوش، قلنسوة داوود والعربي الودود

sarih_auteur

رمضان بين صيام الخصوص وصيام اللصوص

sarih_auteur

الكفاءة المعرفية والخبرة الميدانية والعلاقة الطردية

sarih_auteur