حاورته: سارة معمري
تزخر الجزائر بتراث ثقافي غني ومتنوع من موسيقى، فنون، أزياء وحرف وغيرها، يعكس عمق الحضارات التي تعاقبت على أرضها. هذا التراث لا يشكل الهوية الوطنية الثقافية فقط، بل يُعد كنزًا يجب على جميع الأطراف حمايته وصونه. غير أن هذا التراث المتنوع والغني يواجه اليوم تحديات جمّة، تتراوح بين خطر الاندثار ومحاولات السطو والتحريف من جهات تدّعي شراكة مزعومة في ملكيته.
وفي هذا الصدد، كان لـ”الصريح” حوار مع الصحفي والباحث في التراث الثقافي الجزائري عبد الحميد بريجة، الذي تحدث عن جهود الجزائر في حماية تراثها، وكيفية توثيقه وتصنيفه قبل أن يُنسب لغيرها، ودور الشباب، المؤسسات، الإعلام، الفنانين والمؤثرين في التصدي لأي محاولة سطو أو تزييف للتراث الثقافي الوطني.
أستاذ عبد الحميد بريجة، هل تعتقد أن هناك وعيًا وطنيًا كافيًا بأهمية الحفاظ على التراث الوطني؟
نعم، في السنوات الأخيرة أصبح هناك وعي كبير بفضل التهديدات التي أصبحت تطال التراث الثقافي الجزائري بكل مكوناته. ليس هذا فقط، بل وصل الأمر إلى محاولات امتلاكه من قبل بعض الدول المجاورة، وهو ما ساهم في تشكيل هذا الوعي المتزايد. فقد أصبح الشباب والمثقفون الجزائريون يدافعون بلا هوادة ضد كل محاولة سرقة أو نسب كاذب. وقد بدأ هذا الوعي ينمو من خلال مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضًا عبر استغلال الفنانين والمناسبات لإبراز التراث الثقافي الجزائري المتنوع، بالإضافة إلى المبادرات الرسمية، وعملية تسجيل هذا التراث ضمن المنظمات العالمية، وعلى رأسها اليونسكو. كما نلاحظ حركية كبيرة في فرنسا، حيث توجد جالية جزائرية كبيرة، وكذلك في مختلف المناسبات الثقافية داخل الوطن.
نجحت الجزائر في تسجيل العديد من الموروثات الثقافية ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي المادي وغير المادي لدى اليونسكو، أبرزها مؤخرًا: الزي النسائي الاحتفالي للشرق الجزائري، الملحفة، القفطان، وموسيقى الراي. حسب رأيك، كيف يمكن تعزيز هذه الجهود؟ وكيف يمكن للجزائر اليوم توثيق وتصنيف موروثها الثقافي قبل أن يُنسب لغيرها؟
ربحنا معارك كثيرة، وقريبًا سنربح الحرب كاملة. فالجزائر دولة مؤسسات، وغالبًا ما تكون مبادراتها رسمية وفي إطار قانوني واضح. وقد تم تسجيل العديد من عناصر التراث في اليونسكو بفضل ملفات قوية أعدتها وزارة الثقافة وبعثة الجزائر لدى اليونسكو. هذه الملفات قُبلت بسهولة، وذلك راجع إلى الأرشيف القوي الذي تمتلكه بلادنا، وأيضًا لأن الجزائر تحترم نفسها ولا تنسب لنفسها تراثًا لا يخصها. الجزائر سجلت القفطان بأنواعه، والجبة، والقندورة، والملحفة، والراي، والملحون… وغيرها.
يتعرض التراث الثقافي الجزائري إلى محاولات سرقة من قبل الجار الغربي تحت غطاء “التراث المشترك”، ما الذي تقترحه كباحث كحل عملي ومستدام لحمايته؟
الحل الوحيد هو الاعتراض على الملفات التي تُقدّم بصفة أحادية باسم “التراث المشترك”، لأن هذا التراث خرج من الجزائر، ولا يمكن إنكار أصله. مثلًا: البلوزة جزائرية، القفطان جزائري، ولا مجال للتشكيك في ذلك. يجب الحذر من قبول الملفات المشتركة دون توثيق، فهناك فرق بين تسجيل المهارة وذكر الأصل، وبين تسجيل المهارة دون الاعتراف بالأصل، في محاولة ممنهجة للسطو. مثال آخر: موسيقى القناوة هي إفريقية الجذور، لكن تم تقديمها كتراث لدولة مجاورة دون إشراك الجزائر أو التنسيق معها. ونفس الشيء بالنسبة لفن الصيد بالطيور الذي تم استثناء الجزائر منه رغم أحقيتها، ودوما لدينا الأرشيف كدليل.
ما مدى تعاون الباحثين الجزائريين مع المؤسسات الرسمية في مشاريع توثيق التراث الوطني؟
لا أعتقد أن هناك أستاذًا أو باحثًا جزائريًا رفض تلبية نداء الوطن. فعملية التسجيل في اليونسكو سهر عليها رجال ونساء جزائريون وجزائريات من مشارب متعددة: أكاديميون، نشطاء، حرفيون، رؤساء جمعيات، وأصحاب ورشات… الكل تجند كرجل واحد لإنجاح هذه العملية، وهو ما تحقق، وسيستمر ذلك مستقبلاً من خلال عملية الترويج التي تُعد مهمة أيضًا.
أطلقت وزارة الثقافة مؤخرًا منصة رقمية للترويج الثقافي والسياحي في الجزائر والتعريف به دوليًا، كيف تقيّم هذه الخطوة؟
هي خطوة مواكبة لما قامت به دول متطورة، خصوصًا في هذا المجال. كما أن ربط الثقافة بالسياحة أمر مهم، ليأخذ البلد الزاخر بالتراث حقه في السياحة الثقافية. هذه العملية مهمة جدًا لأنها تعطي إشعاعًا ثقافيًا لبلدنا، وتُسلّط الضوء على العديد من المعالم التاريخية والثقافية، وتُظهرها أمام أعين السياح والمهتمين، خصوصًا الأجانب. كما ستُساهم في إدماج السياحة الثقافية في الاقتصاد الوطني.
كيف يمكن استخدام التكنولوجيا الحديثة في حماية وتوثيق التراث؟
هو أمر حتمي، لأن الشباب والمجتمع أصبحوا ملتصقين بهواتفهم. ومع توفر الإنترنت وسهولة الوصول إلى المنصات، يمكن إطلاق تطبيقات رقمية متعددة كما فعلت دول مثل ألمانيا وماليزيا. على سبيل المثال: إنشاء مسارات ثقافية، صفحات رسمية على منصات التواصل الاجتماعي للمؤسسات الثقافية، أرقام هواتف خضراء، بريد إلكتروني، وعناوين اتصال مباشرة مع الهيئات المعنية.
حسب رأيك، هل يقوم الإعلام الوطني بدوره في الدفاع عن التراث؟ وماذا عن الفنانين والمؤثرين؟
بعد أن شعر الإعلام بخطورة محاولات السرقة، أصبح أكثر وعيًا واندماجًا في الدفاع عن التراث. نلاحظ اليوم برامج تلفزيونية قوية، مخرجين ومعدين يستعملون اللباس التقليدي، ويعودون للأغاني القديمة. كما أن الإذاعات والصحف والمؤثرين الحقيقيين حملوا على عاتقهم هذه القضية، ونلاحظ أن جزائريين وجزائريات مشاهير أصبحوا يروجون لهذا التراث ويدافعون عنه بكل الوسائل، لأن السكوت هنا خيانة، ولا يمكن لأي جزائري غيور أن يبقى صامتًا.
كيف يمكن للمواطن البسيط حماية التراث الوطني والحفاظ عليه؟
ببساطة، عبر إدماجه في الحياة اليومية، في اللباس، الطبخ، العادات، وحتى من خلال الاستثمار في الصناعات التقليدية عبر شركات مصغّرة أو “ستارت آب”. كذلك عبر استغلال مواقع التواصل للترويج له، وإنشاء ورشات تعليمية وتكوينية في المجال، لأن نقل المعرفة هو أساس الحفاظ على التراث.
ما هي رسالتك للشباب الجزائري بخصوص أهمية حماية التراث؟
التراث هو مرآة الفرد والمجتمع، وإذا دافعنا عنه فإننا لا ندافع فقط عن لباس أو أكل، بل عن هوية متكاملة. رسالتي للشباب هي أن التراث يمكن أن يكون مصدر رزق حقيقي، كما هو الحال في دول كثيرة، ويمكن أن يكون رافدًا للتنمية والتميّز والازدهار لبلدنا، ولشبابنا في المستقبل القريب والبعيد.